أ.د.هبة جمال الدين
أستاذ العلوم السياسية في معهد التخطيط القومي
وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

2019-10-01


مراكز الفكر بمصر والوطن العربي وإشكالية الدور وإستشراف المستقبل

لقد جاء ميلاد مراكز الفكر بالأساس لدعم صانع القرار منذ بداية القرن الماضي 1902 بالولايات المتحدة الامريكية وتطور دورها مع تطور إحتياجاته وأجندته بل وساهمت في تحويل بوصلة متخذ القرار ليهتم بقضايا خارج دائرة إهتماماته وأولوياته، وسلطت الضوء على تحديات وإشكاليات عديدة لم تكن في الحسبان. وأضحت من أهم اللاعبين في محيط صنع السياسات العامة ليس بالولايات المتحدة فقط وإنما بمختلف دول العالم أيضا حتي في الدول الاسيوية صاحبت التجربة المختلفة ديموقراطيا حيث نظرت لها كفاعل مهم للمساعدة في وضع خطط التنمية والاصلاح ومن ابرز التجارب في هذا السياق مراكز الفكر الصينية التي أضحت احد أهم أدوات التأثير والقوة الناعمة عبر ما تنظمه من محافل لمناقشة دور مراكز الفكر خارج الدولة الصينية كأحد القوى المشاركة خلال مبادرتها العالمية "الحزام والطريق" لربط دول ثلاثة قارات معا "أسيا- أوروبا- إفريقيا". وإذا أطلعنا على خطط ورؤي بعض الدول للمستقبل ووضعها الخارجي سنجد أن العديد مما يدور اليوم هو صنيعة مراكز الفكر التي تساهم في رسم مستقبل أوطانها وعلاقاتها مع العالم الخارجي. فخطة اسرائيل 2020 و 2050 مراكز الفكر الاسرائيلية أحد أبرز المساهمين في وضعهما، ونظرية تبادل الاراضي الإسرائيلية، ومبادرة خارطة الطريق الامريكية التي عرضها بوش الابن عرضها شارون داخل مؤتمر هرتسيليا بإسرائيل الذي يسمى عقل اسرائيل، كذلك الحال لمبادرة شيمون بيريز للشرق الاوسط الجديد، بل ومخطط برنارد لويس لتقسيم المنطقة العربية لدويلات الذي أعلن عنه كاملا عام 1980، وأحدثها صفقة القرن المزعومة التي عملت عليها مراكز الفكر الامريكية منذ عام 1990 مع دراسات الحرب والسلام وكان أبرز المساهمين فيها جامعة هارفارد وجامعة فلوريدا وجامعة فيرجينيا وما بهم من مراكز فكر معنية كل هذا الزخم وعيره الكثير يحتم علينا الوقوف مرارا للنظر لحال أوطاننا وما يواجهها من تحديات جسيمة بل وسؤال ذاتنا ماذا نريد لانفسنا وماذا أعددنا للمستقبل هل سنظل مفعولا بنا نتيجة لمخططات المراكز الغربية التي تعكس اجندة دولها، أم علينا أن نضع تصورنا وأدوتنا للحركة والفعل والتأثير. كل هذه التساؤلات تحتم علينا النظر للأمام وطرح عدد من الإشكاليات المهمة: - ماهية أدوار مراكز الفكر التي تحتاجها مصر والدول العربية ككل خلال تدعيم أواصر التنمية المستدامة وتحقيق خطط 2030 وخطة 2063 للدول العربية الافريقية - ما هية الأدوات التي تحتاجها المراكز المصرية والعربية لإقتحام المستقبل بل وغزوه - ماذا تحتاج مراكزنا المصرية والعربية لمخاطبة صانع القرار بالأسلوب الأنسب له هنا سأطرح رؤس اقلام وعناوين عريضة ولكنها مهمة إذا رغبنا في البقاء بل وبناء مقدرتنا لمجابهة تحديات المستقبل التي تحمل الكثير من المخاطر الكامنة والفرص المحتملة التي تحتاج لعقل خارج الصندوق لتوجيه عملية صنع السياسة إلى مسارها الصحيح خاصة إذا نظرنا لظواهر وتحديات جديدة بازغة كالاتجاهات العملاقة Mega Trends باعتبارها ظواهر شديدة الحدة والتأثير ستغير شكل العالم والمجتمع وثقافة الشعوب وما تفرضه من فكر ونهج مغاير لمجابهتها Multi Optional thinking Approach ووضع سياسات متعددة الابعاد Multi-Dimensional Policies . هنا تكمن الإجابة على التساؤل الأول فالتخطيط للتنمية المستدامة لابد وأن يتم بمشاركة مراكز الفكر التي عليها ان تتبني اقترابات متعددة الإتجاهات تضع خلالها بدائل تعالج ابعاد عدة في ذات الوقت الأمر الذي يتطلب الإطلاع على التجارب الحديثة في هذا السياق ووضع أوراق سياسات والإطلاع بدراسات تدعم منظومة التنمية المستدامة بل وتساهم أيضا في وضع سيناريوهات مركبة تشابكية بين الأبعاد الثلاثة لرؤية مصر للتنمية المستدامة 2030 والتجهيز لوجود سيناريوهات بديلة حال فشل أحدها ليمكننا مواكبة المخاطر الكامنة بل وتحقيق المستهدف المرجو دون الإنتظار لفشل السيناريو الموضوع لنفكر بعد ذلك في البديل المفترض علينا وضعه. ايضا يقتضي الأمر لتصبح مراكزنا مختبرات للعقول وفي الوقت ذاته مراكز للفكر والفعل عبر ما تقدمه من برامج لرفع الوعي وبناء الكوادر وتقديم الإستشارات بل والمساهمة في تنفيذ بدائل السياسات التي تضعها هى ذاتها لتقريب وجهات النظر والوصول للممكن تطبيقه على الأرض. وهذا يتطلب رؤية مستقبلية بل وأدوات لإقتحام الفضاء المستقبلي هنا تأتي الإجابة على التساؤل الثاني فمراكزنا البحثية تحتاج لأن تمتلك أدوات إستشراف المستقبل ومنهجيات علم المستقبليات كأسلوب دلفي وكتابة السيناريوهات والتحليل الشبكي والعصف الذهني وعجلة المستقبليات والخرائط الزمنية والمحاكاة وغيرها وكذا تطوير أجندتها البحثية لتتناول الجديد في العلم حيث تهتم مراكز الفكر العالمية بقضايا جديدة وأكثر حداثة عما نعمل عليه كقضايا التطور البيولوجي والتطور الجيني والحديث عن القنبلة الجينية والطفرة بعلم الجينات لخدمة أهداف سياسية والحديث عن ظهور علم GENOPOITICS خلال الحقبة الاولى من الآلفية وكذا قضايا التطور التكنولوجي والذكاء الإصطناعي وامتلاكه للتفكير البشري ووضع خطط ومنهجيات لغزو المستقبل وإقتحامه حتى وإن كان عبر مزج تلك القضايا بالابعاد الدينية لحل الصراعات الممتدة وطرح مسميات جديدة لها انعكاسات سياسية كمخطط جديد طرحه مركز Emergy بجامعة فلوريدا يسمى الولايات المتحدة الابراهيمية استطاع خلال المبادرة السياسية ربط عدة تحديات معا عبر صياغة مخطط من السياسات متعددة الابعاد والرؤي ككل متكامل معا كالأبعاد البيئية وندرة الموارد، والتطور التكنولوجي والتقنيات الحديثة لإستغلال الموارد، والصراع السني الشيعي والأرهاب ومكافحته وفشل الدول القومية في التصدي لملفات التعليم والصحة والرفاهه الاجتماعية كمداخل مهمة للحديث عن تكامل اقليمي فيدرالي يسعى لتصفية الصراع العربي الإسرائيلي والصراع السنى الشيعي محققا مصالح قوى تأمرية كإسرائيل وتركيا في المنطقة. هنا لنستطيع بناء سيناريوهات ووضع خطط متعددة الأبعاد تتلائم مع متطلبات المستقبل الأمر يحتاج لكوادر قادرة ومدربة وعقليات مبدعة خارج المألوف والمعتاد تؤمن بالتفكير النقدي وتحتذي به مطلعة ومفكرة ومغامرة بالفعل عقول خارج الصندوق تعمل معا كل متكامل في مختلف التخصصات لصالح الوطن والأوطان العربية. ومع توافر هذه العقول تأتي اشكالية كيفية مخاطبة صناع القرار كي لا تقف سيناريوهات المستقبل عند كونها سيناريوهات وكفي ولكن لتتحول لسياسات وإستراتيجيات ممكن تطبيقها على الأرض هنا تأتي الإجابة على التساؤل الثالث. فمراكز الفكر تحتاج لأن تمتلك أدوات مخاطبة صانع القرار بالاسلوب الانسب لطبيعة عمله والمساحة المتاحة له للانطلاق هنا أعني إمتلاكها لطرق كتابة أوراق السياسات العامة وهى رغم بسطاتها ولكنها بالفعل تحدي كبير يقف امام مراكز الأبحاث العربية والمصرية حيث لا تجيد مخاطبة صانع القرار ولا تستطيع تقديم ملخص سياسات مقرون ببدائل ممكنة وقابلة للتطبيق تشمل طرق تطبيقها وتنفيذها على الأرض والمدى الزمنى الممكن لتعظيم العائد المرجو. الأمر الذي يحتاج لفكر جديد ينقلنا بين المأمول والممكن هنا يأتي المقال مصاحبا لميلاد مركز فكر جديد ترسم رؤيته ورسالته لملامح ومحددات مهمة قريبة من هذا التصور بالأعلى ألا وهو المركز الاقليمي لدراسات التنمية المستدامة وإستشراف المستقبل الذي يسعى للمساهمة في دعم متخذ القرار في القضايا ذات الصلة بمجال التنمية المستدامة وإستشراف المستقبل في مصر والمنطقة العربية والقارة الإفريقية أي يجمع بين التنمية وإقتحام المستقبل بل ويطرح نفسه كمركز للفكر والفعل Think Do Tank فلا يقتصر عمله على تقديم الدراسات وإنما يستهدف الحديث من مبادرات إبتكارية تعالج القضايا المستقبلية وإشكاليات تحقيق التنمية المستدامة بمصر والمنطقة علاوة على مهمة نشر الوعي ورفع الوعي بهدف إحداث التأثير المجتمعى المرجو في منظومة صنع السياسات والقرار بل وزيادة هامش التأثير عبر الشراكات الدولية التي يسعى لبناؤها ويستهدف اقامتها. هنا إذا تحقق المستهدف من هذا المركز وفقا لما هو مخطط أتصور أن يكون نواة جيدة للمراكز المستقلة التي نحتاجها لتتكامل مع المراكز الحكومية لدعم منظومة صنع القرار بوطننا مصر بل والكشف عما يحاك حوله من تحديات والعمل على إجهاضها بالشراكه مع كافة مؤسسات الدولة. فهذه المراكز هى عقل الدول وفكرها الحر لإستشراف المستقبل.