د نانيس عبد الرازق فهمي
دكتوراة في العلوم السياسية
متخصص في شئون الأمن الاقليمي

2019-10-24


التنمية المستدامة في المنطقة العربية : تحديات وآفــاق

تتشارك الدول العربية في عدد من القواسم المعروفة ، كما إنها تتشارك أيضا فيما تواجهه من تحديات لعملية التنمية، تظهر في صورة دوائر الحرمان الأربعة وهي الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وعدم الاستقرار في المياه والطاقة والبيئة وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الانمائي لعام 2012 ، وازدادت حدة هذه التحديات بعد الثورات العربية ، وما خلفته من فراغ أمني وتراجعات اقتصادية أو تغيرات في توازنات القوى الإقليمية ، وتدخلات دولية في شئون الاقليم استغلالا لموارده ، لدرجة أنه بات شائعا بين المراقبين والمحللين أن الإقليم العربي وربما الشرق الأوسط ككل لن يعود كما كان مرة أخرى. وتتوقع بعض الدراسات مستقبل منطقة الشرق الأوسط خاصة المنطقة العربية في ثلاث سيناريوهات حتى عام 2025: السيناريو الأول: استمرار الوضع الحالي ، حيث تواجه أغلب الدول العربية تحديات خطيرة حتى عام 2025 من حيث تراجع الاقتصاد وزيادة البطالة بين الشباب، وغياب المشاركة السياسية، واستمرار التهديدات الإرهابية، واستمرار العنف و الصراعات التي طال أمدها في بعض الدول، مما يبقي المنطقة عالقة في فخ الصراعات ، وتؤجل الإصلاحات لأسباب أمنية،الأمر الذي يعيق ليس فقط التكامل الإقليمي بل أيضا التنمية الاقتصادية الموضوعية للمنطقة ككل. وتكون المنطقة العربية بذلك قد فقدت عقد كامل من الزمن دون إحراز أي تقدم خاصة في مجال القضاء على العنف واستعادة الاستقرار على الرغم من محاولة تجنب الانهيار التام. السيناريو الثاني :التراجع أو الانفجار الداخلي حيث تتراجع أوضاع العالم العربي على عدة جبهات، وتتركز الجهود بالأساس على محاربة الإرهاب أيا كانت التكاليف، وتهمل الدول العربية تنفيذ الإصلاحات التي من شأنها تحقيق التنمية الاقتصادية و تحقيق النمو وتعزيز الاستقرار ويسود جو مزيج من انعدام الأمن وعدم الاستقرار والإعانات غير المستدامة، وارتفاع أسعار الغذاء مما سيؤدي إلى شلل اقتصادي لمعظم الدول العربية، واضطرابات واسعة النطاق. أما السيناريو الثالث : يدور حول التقدم الى الأمام وتحقيق قفزة عربية من خلال التنمية والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والأمني ، كسبيل للتوصل الى حلول لكافة الأزمات إذا ما رغبت الدول العربية في تحقيق تقدم ومستقبل أفضل . والتنمية المقصودة هنا ليست التنمية بمفهومها التقليدي ،لأن ما تحتاجه الدول العربية حاليا ليس مجرد الارتقاء بمواردها الطبيعية والبشرية لتحقيق تغييرا جذريا كميا ونوعيا وهيكليا في البيئة المحيطة في مختلف الأبعاد السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ،وإنما المطلوب هو التنمية المستدامة التي تعمل علي تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون حرمان الأجيال القادمة من حقها في الحصول على احتياجاتها أو خصما من مواردها أو يؤثر علي البيئة المحيطة بها، بمعنى آخر هو التوفيق بين تنمية اجتماعية واقتصادية قابلة للاستمرار وحماية البيئة ، أي إدراج البعد البيئي في إطار تنمية تضمن تلبية حاجات الأجيال الحاضرة والأجيال المستقبلية ،ويرتكز هذا كله على إدارة رشيدة حكيمة تعتمد على الاستخدام العقلاني والرشيد للموارد وفق تخطيط علمي وموضوعي محكم، يضع في الحسبان المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لجميع برامج التنموية مع مراعاة الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة والزمن اللازم للإنجاز، وكذلك - وهو أهم- الإطار الثقافي وخصوصية المجتمع. ولتحقيق السيناريو الثالث، يبرز دور التنمية المستدامة والتعاون العربي باعتبارهما من أهم السبل لإنقاذ المنطقة بعد كل ما مرت به من تعقيدات ، وفي تقديري أن العبء يقع على الدول الفاعلة في المنطقة مصر والسعودية والامارات خاصة أنها وضعت رؤىء للتنمية المستدامة وللمستقبل وبدأت بالفعل في تنفيذها، فضلا عن رؤى مؤسسات اقليمية هامة كالاتحاد الإفريقي ورؤيته 2063 ، وذلك من خلال التعاون لوضع تصور استراتيجي موحد في مجال التنمية المستدامة واستشراف المستقبل وجودة الحياة . فرغم ما واجهته الدول العربية إلا أن لديها الأساس القوي الذي تستطيع البناء عليه لمستقبل أفضل وفقا لتقديرات الأمم المتحدة وتقريرها حول التننمية المستدامة العربية في نسخته الأولي عام 2015... وفي سبيل تحقيق هدف التنمية المستدامة واستشراف المستقبل تتكاتف جميع الجهود وتتكامل جميع الأدوار سواء أدوار المؤسسات أو العلوم أو البحوث في تصميم برامج التنمية للقطاعات الحيوية وذات الأهمية الاستراتيجية في المستقبل ، بدءا من الدراسة والتخطيط والمبادرة والتنفيذ والتغلب علي التحديات التي قد تظهر بل والابتكار والتميز في سبيل ذلك. هذا فضلا عن أنه في ظل عصر العولمة لم يعد هناك خيار أمام الشعوب وحكوماتها والمنظمات القارية سوى الوحدة والتنمية والتطوير من أجل مواجهة التغييرات العالمية التي تحدث في كافة المجالات والأصعدة، لذلك نحتاج فرق التنمية المستدامة واستشراف المستقبل سواء في المؤسسات الحكومية أو القطاع العام أو القطاع الخاص أو منظمات المجتمع المدني لبناء قدرات وطنية وتزويدها بمهارات المستقبل واطلاعها علي أدوات استشرافه وصناعته من خلال تطوير استراتيجيات وتجارب وخدمات مستقبلية متميزة تهدف الي تمكين القيادات من وضع حلول ومبادرات وتحويلها الى واقع ملموس لصناعة مستقبل أفضل للأجيال القادمة . وفي هذا السياق ، تبرز الحاجة الى كيانات ذات طبيعة خاصة تتواكب مع متطلبات المرحلة الراهنة والتوجه العام نحو التنمية والتطور ، وبالتالي يكون انشاء المركز الاقليمي لدراسات التنمية المستدامة واستشراف المستقبل في توقيت حيوي وضروري لأنه يطرح نفسه كمركز فكر ومنبر مختلف ومتميز يركز علي المساهمة في التخطيط والبناء لبرامج التنمية المستدامة التي يعمل المركز، وفقا لرؤيته، علي الاهتمام بأبعادها الثلاث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ، كما يعتبر المركز الاقليمي مركزا مستقلا للتدريب العلمي ، يضم خبراء في مجالات العلم والتقنية والإدارة والتخطيط ، سواء كانوا يعملون في مصر أو خارجها من أجل المساهمة في النهوض ودفع عجلة التقدم المعرفي وتحفيز التميز في هذا المجال الهام. ويتعاون المركز في ذلك مع الأجهزة الإدارية في الدولة والقطاع العام وكبري الشركات الخاصة من أجل تلبية الاحتياجات التي تتطلبها مشاركتهم في عملية التنمية المستدامة من خلال تقديم المشورة والدراسات مع ابتكار وسائل للتغلب علي العقبات التي قد تعترض اجراءات التنفيذ، والتنسيق بين الجوانب الفنية والمهنية طبقا للجهود اللازمة في المواقع والقطاعات المحددة وطبقا للخطة الزمنية المحددة ، وتدريب الأفراد في هذه الأجهزة لرفع مستوى أداء القيادات خاصة في مجال التغلب علي مخاطر المستقبل ، ويساند المركز أيضا البعد الثقافي أو التوعوي ، الذي ينشر رسالته ويعرف الرأي العام بأهدافه ورؤيته بشكل عام والجمهور المستهدف بشكل خاص، من أجل الارتقاء وتعميق الوعي المستدام للمجتمع العربي والافريقي بأهمية هذه البرامج ، وذلك لتفعيل الثروة البشرية بما يعمل على التنمية الشمولية. وما يميز المركز كذلك اهتمامه وتخصصه في الدراسات الاستشرافية، وهو مجال تحتاجه أيضا مصر والدول العربية والإفريقية ، خاصة في ظل ما يسود النظام الدولي والاقليمي من حالة سيولة واللا يقين وصعوبة القدرة على التنبؤ ، فهذا النوع من الدراسات لا يهدف الي التنبؤ بالمستقبل وانما التبصير بجملة البدائل المتوقعة التي تساعد على الاختيار الواعي ، ويعمل المركز في ذلك على استخدام أدوات هذا العلم ، لأنه بذلك يضع الاحتمالات التي قد تحدث بنسب متفاوتة والاستعداد لكل احتمال وفق منهجية علمية ومحاولة تكوين صورة واضحة بما يمكن أن يحدث ، وذلك على أساس ما يتاح من معلومات عن الظروف الطبيعية والحيوية للبيئة المعنية ، فغاية الدراسات المستقبلية هو توفير اطار زمني طويل المدى لما نتخذه من قرارات اليوم. لذلك يعتبر انشاء هذا المركز خطوة تتماشى مع الاتجاه الدولي بشكل عام وتوجه للدولة المصرية خصوصا نحو تعزيز الاستقرار الاقتصادي والحفاظ على ما تحقق ، وزيادة معدلات التنمية ، الأمر الذي يتطلب جهدا كبيرا لكي يحقق ما أنشئ من أجله ، ويسهم في تحقيق مصلحة مصر والمحيط الاقليمي العربي والافريقي نحو مستقبل أفضل .